فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {تحمله الملائكة} حال من {التابوت}، والحمل هنا هو الترحيل كما في قوله تعالى: {قلت لا أجد ما أحملكم عليه} [التوبة: 92] لأن الراحلة تحمل راكبها؛ ولذلك تسمى حمولة وفي حديث غزوة خيبر: «وكانت الحمر حمولتهم» وقال النابغة:
يُخَال به راعي الحَمُولة طَائرا

فمعنى حمل الملائكة التابوت هو تسييرهم بإذن الله البقرتين السائرتين بالعجلة التي عليها التابوت إلى محلة بني إسرائيل، من غير أن يسبق لهما إلف بالسير إلى تلك الجهة، هذا هو الملاقى لما في كتب بني إسرائيل. اهـ.

.قال الطبري:

اختلف أهل التأويل في صفة حمل الملائكة ذلك التابوت.
فقال بعضهم: معنى ذلك: تحمله بين السماء والأرض، حتى تضعه بين أظهرهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: تسوق الملائكة الدواب التي تحمله. اهـ.
ثم قال رحمه الله:
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: حملت التابوت الملائكة حتى وضعته لها في دار طالوت قائما بين أظهر بني إسرائيل.
وذلك أن الله تعالى ذكره قال: {تحمله الملائكة}، ولم يقل: تأتي به الملائكة. وما جرته البقر على عجل. وإن كانت الملائكة هي سائقتها، فهي غير حاملته. لأن الحمل المعروف، هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل، فأما ما حمله على غيره وإن كان جائزا في اللغة أن يقال حمله بمعنى معونته الحامل، وبأن حمله كان عن سببه فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه، في تعارف الناس إياه بينهم. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من اللغات، أولى من توجيهه إلى الأنكر، ما وُجد إلى ذلك سبيل. اهـ.

.قال ابن عطية:

وكثر الرواة في قصص التابوت وصورة حمله بما لم أر لإثباته وجهًا للين إسناده. اهـ.

.قال الفخر:

وأما قوله: {إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فالمعنى أن هذه الآية معجزة باهرة إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق المدعي. اهـ.

.قال الطبري:

يعني تعالى ذكره بذلك: أن نبيه أشمويل قال لبني إسرائيل: إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون حاملته الملائكة {لآية لكم}، يعني: لعلامة لكم ودلالة، أيها الناس، على صدقي فيما أخبرتكم: أن الله بعث لكم طالوت ملكا، أن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به من تمليك الله إياه عليكم، واتهمتموني في خبري إياكم بذلك {إن كنتم مؤمنين}، يعني بذلك: إن كنتم مصدقي عند مجيء الآية التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه.
وإنما قلنا ذلك معناه، لأن القوم قد كانوا كفروا بالله في تكذيبهم نبيهم وردهم عليه قوله: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا}، بقولهم: {أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه}، وفي مسألتهم إياه الآية على صدقه. فإذ كان ذلك منهم كفرا، فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار: لكم في مجيء التابوت آية إن كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله: وليسوا من أهل الإيمان بالله ولا برسوله. ولكن الأمر في ذلك على ما وصفنا من معناه، لأنهم سألوا الآية على صدق خبره إياهم ليقروا بصدقه، فقال لهم: في مجيء التابوت- على ما وصفه لهم- آية لكم إن كنتم عند مجيئه كذلك مصدقي بما قلت لكم وأخبرتكم به. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} قيل: الإشارة إلى التابوت، والأحسن أن يعود على الإتيان أي: إتيان التابوت على الوصف المذكور ليناسب أول الآية آخرها، لأن أولها {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت} والمعنى لآية لكم على ملكه واختياره لكم، وقيل: علامة لكم على نصركم على عدوّكم، لأنهم كانوا يستنصرون بالتابوت أينما توجهوا، فينصرون.
و: إن، قيل على حالها من وضعها للشرط.
أي: ذلك آية لكم على تقدير إيمانكم لأنهم قيل: صاروا كفرة بإنكارهم على نبيهم.
وقيل: إن كان من شأنكم وهممكم الإيمان بما تقوم به الحجة عليكم، وقيل: إن كنتم مصدّقين بأن الله قد جعل لكم طالوت ملكًا.
وقيل: مصدّقين بأن وعد الله حق.
وقيل: إن، بمعنى: إذ، ولم يسألوا تكذيبًا لنبيهم، وإنما سألوا تعرفًا لوجه الحكمة، والسؤال عن الكيفية لا يكون إنكارا كليًا. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}.
التفسير: القصة الثانية قصة طالوت، والملأ اسم جماعة من الناس كالقوم والرهط لأنهم يملؤن العيون هيبةً، أو لأنهم ملأى بالأحلام والآراء الصائبة وجمعه أملاء. قال: وقال لها الأملاء من كل معشر. وخير أقاويل الرجال سديدها.
قال الزجاج: الملأ الرؤساء سموا بذلك لأنهم ملؤا بما يحتج إليه من كفايات الأمور وتدبيرها من قولهم ملؤ الرجل ملاءة فهو ملؤ إذا كان مطيقًا له، لأنهم يتمالؤن أي يتظاهرون ويتساندون. والغرض من إيراد هذه القصة عقيب آية القتال، ترغيب المكلفين على الجهاد وأن لا يكونوا كمن أمروا بالقتال فخالفوا وظلموا {إذ قالوا لنبيٍ لهم} لم يحصل العلم بذلك النبي وبأولئك الملأ من الخبر المتواتر، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن. لكن المقصود وهو الحث على الجهاد حاصل. منهم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف لقوله تعالى: {من بعد موسى} ولكنه لا يلزم منه حصوله من بعده على الاتصال.
والأكثرون على أنه أشمويل واسمه بالعربية إسماعيل. وعن السدي هو شمعون سمته أمه بذلك لأنها دعت الله أن يرزقها إياه فسمع دعاءها فسمته شمعون. والسين تصير شينًا بالعبرانية وهو من ولد لاوى بن يعقوب. {ابعث لنا ملكًا} أنهض للقتال معنا أميرًا نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وتنتظم به كلمتنا. وكان قوام بين إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء ويجري الأحكام، ونبي يطيعه الملك ويقيم أمر دينهم ويأتيهم بالخبر من ربهم {نقاتل في سبيل الله} بالنون والجزم على الجواب وهي القراءة المشهورة. وقرئ بالنون والرفع على أنه حال أي ابعث لنا ملكًا مقدرين القتال، أو استئناف كأنه قال لهم. ما تصنعون بالملك؟ فقالوا: نقاتل. وقرئ: {يقاتل} بالياء والجزم على الجواب، وبالرفع على أنه صفة ل {ملكًا} و{هل عسيتم} خبره {أن لا تقاتلوا} والشرط فاصل بينهما، وجواب الشرط محذوف يدل عليه المذكور أي إن كتب عليكم القتال فهل يتوقع منكم الجبن والخور؟ وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه {وما لنا ألا نقاتل} قال المبرد: ما نافية أي ليس لنا ترك القتال. والأكثرون على أنه للاستفهام، وأورد عليه أنه خلاف المشهور فإنه لا يقال: ما لك أن لا تفعل كذا، وإنما يقال: مالك لا تفعل. فعن الأخفش أن أن زائدة أي ما لنا لا نقاتل. ورد بأن الزيادة خلاف الأصل ولاسيما في كلام رب العزة. وعن الفراء أن الكلام محمول على المعنى لأن قولك ما لك لا تقاتل معناه ما منعك أن تقاتل، فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال أن فيه. وعن الكسائي: واستحسنه الفارسي أن التقدير أيّ شيء لنا وأيّ داع أو غرض في ترك القتال فسقطت كلمة في على القياس {وقد أخرجنا} أي وحالنا أنا أخرجنا من ديارنا بالسبي والقهر على نواحيها، ومن بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر منه الاجتهاد في قمع عدوّه. روي أن قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين. وهاهنا محذوف التقدير: فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكًا وكتب عليهم القتال. {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلًا منهم} وهم الذين عبروا النهر وسيأتي ذكرهم وأنهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر علىعدد أهل بدر. {والله عليم بالظالمين} وعيد لهم ولكل مكلف في الإسلام على القعود عن القتال. وأي وعيد أبلغ من أن وضع الظالمين موضع الضمير العائد إليهم.
قوله سبحانه: {وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا} طالوت اسم أعجميّ كجالوت وداود، امتنع من الصرف للعلمية والعجمة المعتبرة.
وقد يمكن تكلف اشتقاقه من الطول لما يجيء من وصفه بالبسطة في الجسم، وقد يوافق العبراني العربي. و{ملكًا} نصب على الحال، أو التمييز، أو مفعول ثانٍ على أن بعث بمعنى صير. وفي الآية تقرير لتوليهم وتأكيد لذلك، فإن أولى ما تولوا هو إنكارهم أمر النبي المبعوث إليهم بالتماسهم وذلك أنهم {قالوا أنى يكون} كيف ومن أين يصح ويصلح {له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعةً من المال} الواو الولى للحال، والثانية للعطف. فانتظمت الجملتان في سلك الحالية. استبعدوا تملكه من وجهين: الأول: أن النبوة كانت في سبط لاوى بن يعقوب ومنه موسى وهارون، والملك كان في سبط يهوذا ومنه داود وسليمان، وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين بل كان من ولد بنيامين. الثاني: أنه كان فقيرًا ولابد للملك من مال يعتضد به. فعن وهب أنه كان دباغًا. وعن السدي أنه كان مكاريًا. وقال الآخرون: كان سقاء فأزيلت شبهتهم بوجوه: الأول: {قال إنّ الله اصطفاه عليكم} اختاره دونكم واستخلصه من بينكم وأمره عليكم، ولا اعتراض لأحد على حكم الله. وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكًا فأُتي بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت. الثاني: {وزاده بسطة في العلم والجسم} طعنوا فيه بنقصان الجاه والمال فقابلهما الله تعالى بوصفين العلم والقدرة وأنهما أشد مناسبة لاستحقاق الملك من النسب والمال، لأن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية دونهما وبالعلم والقدرة يتوسل إلى الجاه والمال ولا ينعكس، والعلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لحق الإنسان، والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان وأنهما لا يمكن سلبهما عن ذات الإنسان بخلافهما. وإن العالم بأمر الحروب ذا القوة والبطش يكون الانتفاع به في مصالح البلاد والعباد أتم من النسيب الغني إذا لم يكن له علم يضبط المصالح وقدرة على دفع الأعداء. والظاهر أن المراد بالبسط في العلم هو حذقه فيما طلبوه لأجله من أمر الحرب، ويجوز أن يكون عالمًا في الديانات وبغيرها. وذلك أن الملك ينبغي أن يكون عالمًا وإلا كان مزدري غير منتفع به، وأن يكون جسيمًا يملأ العين مهابة وحشمة. والبسطة السعة والامتداد وطول القامة. روي أنه كان يفوق الناس برأسه ومنكبيه. وقيل: المراد منه الجمال وكان أجمل بني إسرائيل. والأظهر أن يراد بها القوة لأنها المنتفع بها في دفع الأعداء لا الطول والجمال. الوجه الثالث: {والله يوتي ملكه من يشاء} فالملك له والعبيد له والمالك إذا تصرف في ملك نفسه فلا اعتراض لأحد عليه. الوجه الرابع: {والله واسع عليم} فإذا فوض الملك إليه فإن علم أن الملك لا يتمشى إلا بالمال فتح عليه باب الرزق ويوسع عليه.
قوله عز من قائل: {وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت} الآية. اعلم أن ظاهر قوله تعالى: {إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكًا} يدل على أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إنه لما قال: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا} كان هذا دليلًا قاطعًا على أنه ملك، لكنه تعالى لكمال رأفته بالمكلفين ضم إلى ذلك الدليل دليلًا آخر دل على صدق النبي، وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز. ولهذا كثرت معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزات موسى وعيسى عليهما السلام. ثم إن مجيء التابوت لابد أن يقع على وجه يكون خارقًا للعادة حتى يصح أن يكون معجزة وآية من عند الله دالة على صدق تلك الدعوى. فقيل: إن الله تعالى أنزل على آدم تابوتًا فيه صور الأنبياء من أولاده فتوارثوه إلى أن وصل إلى يعقوب، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال ذلك النبي: إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره. وكان الكفار الذين سلبوا التابوت قد جعلوه في موضع البول والغائط، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في ذلك الوقت فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله بالبواسير، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت فأخرجوه ووضعوه على ثورين، فأقبل الثوران يسيران ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت. فعلى هذا إتيان التابوت مجاز لأنه أتى به ولم يأت هو بنفسه. وقيل: إنه صندوق من خشب كان موسى يضع التوراة فيه وكانوا يعرفونه، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل. ثم قال نبي ذلك القوم: إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء، فنزل من السماء والملائكة كانوا يحفظونه والقوم ينظرون حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس. وعلى هذا الإتيان حقيقة، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعًا لأن من حفظ شيئًا في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء. أما شكل التابوت فقيل: كان من خشب الشمشار مموهًا بالذهب نحوًا من ثلاثة أذرع في ذراعين. وقرأ أبي وزيد بن ثابت {التابوه} بالهاء وهي لغة الأنصار. وأما وزن التابوت فلا يخلو إما أن يكون فعلوتا أو فاعولا لا سبيل إلى الثاني لقلة باب سلس وقلق ولأنه تركيب غير معروف فهو فعلوت من التوب أي الرجوع لأنه ظرف، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته.
والظاهر أن مجيء التابوت كان معجزة لنبي ذلك الزمان، ومع كونه معجزة له كان آية قاطعة في ثبوت ملك طالوت، وقيل: إن طالوت كان نبيًا وإتيان التابوت معجزته لأنه كان مقرونًا بالتحدي. والجواب أن التحدي كان من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته {فيه سكينةٌ} هي فعيلة من السكون ضد الحركة ومعناه الوقار، ومصدر وقع موقع الاسم كالعزيمة. وأما البقية فبمعنى الباقية. يقال: بقي من الشيء بقية. والمراد بالسكينة والبقية إما أن يكون شيئًا حاصلًا في التابوت أولًا، والثاني قول الأصم وعلى هذا فمعناه أنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة اطمأنت نفوسهم وأقروا له بالملك وانتظم أمر ما بقي من دين موسى وهارون ومن شريعتهما فهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» أي بسببها. وعلى الأول أقوال فعن أبي مسلم: كان في التابوت بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام بأن الله تعالى ينصر طالوت وجنوده فيزول خوف العدو عنهم. وعن ابن عباس: هي صورة من زبرجد وياقوت لها رأس كرأس الهر، وذنب كذنبه، وجناحان فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه، فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر. وعن علي رضي الله عنه: كان لها وجه كوجه الإنسان، وفيها ريح هفافة أي طيبة. وأما البقية فهي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفيز من المنّ الذي أنزل عليهم. قال بعض العلماء: إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون لأن ذلك التابوت قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت. وفي التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون فيكون الآل هم الأتباع. قال تعالى: {أدخلوا آل فرعون} [غافر: 46] {وإذ نجيناكم من آل فرعون} [البقرة: 49] ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري «لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود» وأراد به داود نفسه إذ لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن ما كان لداود {إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} بدلالة المعجزة على صدق المدعي وهاهنا محذوف والتقدير: فأتاهم التابوت فأذعنوا لطالوت وأجابوا إلى المسير تحت رايته. اهـ.